top of page

 تأسس في سنة 1988

علماني مستقل

المعهد الأوربي للثقافة العربية 

ذكريات بغدادي، خمسينيات القرن العشرين

أبو العيس

ذكريات زمن جميل، بسرد قصصي

بغداد في خمسينيات القرن العشرين 

علي خضر

في تشرين ثاني من سنة 1956، كان عمري يقترب ببطء من الخمس سنين وكان اللعب في البيت أو في الزقاق مع أطفال الجيران، وبالذات مع زهير وحازم هو أهم شيء يشغلني فكريا ونفسيا وجسديا. لم نكن، نحن الثلاثة، نفهم أو نعي معنى الصداقة في هذا العمر لكننا كنا نعرف بأن اللعب لا يكون ممتعا بدون أن نكون سوية. كان ذلك في يوم جمعة، وقت العصر، حيث كانت نساء المحلة يجلسن في مدخل زقاقنا، في محلة الست هدية، على حصيرة صغيرة يدردشن فيما بينهن ويراقبن أولادهن، فتيان المحلة وأصدقائهم، الذين كانوا يلعبون الكرة في  ساحة زبيدة المقابلة لزقاقنا. أما نحن فقد كنا نلعب وبسعادة كبيرة بالكرات الزجاجية الصغيرة (الدُعبُل) بدون 

   أن نعير أي اهتمام لفتيان الكرة. ة

كان من عادة والدي إغلاق دكانه الواقع في محلة عباس أفندي، المُقابلة لمحلتنا، في ذلك اليوم، أي يوم الجمعة، لكي يقضيه معنا أنا وأخي زيد وأمي وينتهز الفرصة ليمضي بعض الوقت مع أخواته (عماتي) ومع أخيه (عمي) سعيد الساكنين في البيت المجاور لبيتنا. في ذلك اليوم، بينما كنت مشغولا جدا بلعبة (الدُعبُل)، لمحته من بعيد، مع أخي زيد، واقفا في طرف ساحة زبيدة. استمررت بالنظر إليه مع إحساس بشيء من الفخر به. كان كعادته يرتدي البنطلون العريض والسترة التي كانت تبدو عليه طويلة بسبب قصره. أثناء ذلك سمعت أخي زيد يناديني، وهو اكبر مني بأربع سنوات ونصف، ويطلب مني أن أتبعه لنذهب مع الوالد الذي ينتظرنا في الساحة. لم أكن أريد أن أذهب معهما وترك زهير وحازم يلعبان وحدهما لكن لم يكن بإمكاني أن أعاند أو ارفض وخصوصا وأن الطلب جاء من أبي. ي

تبعت أخي، وأنا على مضض، إلى حيث كان الوالد يقف منتظرا. عندما وصلنا مسك والدي يدي اليسرى وبدأ يمشي عابرا ساحة زبيدة، البيضوية التصميم، باتجاه شارع الأمين بخطوات ثابتة لكن بطيئة حتى استطيع أن أجاريه وامشي بجانبه. كنت أخطو خطوتين أو ثلاثة مقابل كل خطوة له وإحساس بالخيبة ينتابني لعدم الاستمرار باللعب مع أصدقائي. لم أكن أعرف إلى أين كان يريد أن يذهب لكني أحسست بأن هناك شيئا مهما جعله يأخذنا أنا وأخي معه. ه

دخلنا في شارع الأمين ومشينا على رصيفه الأيمن المليء بمحلات بيع الأثاث (الموبيليات) حيث كانت تتوزع بعض قطع الأثاث على جوانبه ومررنا من أمام مقهى الحاج فائق (حجي فايق) التي تقع في مدخل محلة عباس أفندي والتي يقابلها من الجانب الآخر من الشارع مدخل سوق حنون الصغير أو (عند البعض) سوق  قمبر علي. الرصيف كان مليئا بالمارة والعابرين ونظراتي كانت تتنقل بسرعة بين قطع الأثاث وأصحاب المحلات الذين يجلسون أمام محلاتهم وحركة السيارات في الشارع وضجيجها هذا الذي جعلني أحس بالضياع فشددت على يد والدي لكي لا تفلت مني. أما أخي زيد فانه كان يمشي في بعض الأحيان أمامنا وفي أحيان أخرى وراءنا. وكان ينتهز الفرصة عندما يكون وراءنا ليعطيني (كفخة) ضربة صغيرة على رأسي ليستفزني. ي

استمررنا بالمشي وعبرنا تقاطع شارع الأمين مع شارع الملكة عالية ورصيفه الترابي. وفي الجانب الآخر، الجانب الأيمن أو الغربي من التقاطع، جذب اهتمامي إعلانا سينمائيا كبيرا معلقا فوق مدخل سينما دنيا ويحتوي على صور لشخصيات من بينها صورة محمد القيسي (فرقة الزبانية). نظرت إلى أخي وأشرت له بيدي إلى الإعلان وقلت بتعجب: هذا عمو محمد !!!  د

عندما رآني أخي أنظر وأشير إلى الإعلان السينمائي وأتكلم بتعجب ضحك علي وقال وكأنه يعرف كل شيء: هذا فلم "من المسؤول" والذي شارك فيه عمو محمد. فنظرت إلى أخي وكأني أعرف ذلك.

مررنا من أمام مدخل محلة العاقولية التي تقع على الجانب الأيمن من الشارع. وقتها، نظر إلي والدي وقال عندما تكبر سأسجلك في مدرسة العاقولية، مدرسة التفيض، لأنها مدرسة معروفة وجيدة ويتردد إليها الشعراء والكتاب ومنهم الشاعر معروف الرصافي. لم أفهم جيدا كلامه لكني أحسست بيده تشد بحنان على يدي. في الطريق جذب اهتمامي مشهدا وقع في الجانب الآخر من شارع الأمين، أمام محل صباغ الأحذية الكردي، رجل كان يتكلم بصوت مرتفع قريبا من الصراخ، ويلتف حوله بعض الناس، يذكر أسماء أشخاص لا اعرفهم وينعتهم بخدم الانكليز. نظرت إلى والدي لأسأله عن ذلك فرأيته يبتسم ولا يعير اهتماما كبيرا لهذا المشهد. أحسست بأن صراخ هذا الرجل والتفاف الناس حوله كان مشهدا يوميا عاديا. ا

وصلنا إلى تقاطع شارعي الرشيد والأمين وعبرناه باتجاه الجسر العتيق. مررنا من أمام سوق السراي الذي كان يفترش مدخله بائعو الكتب والصحف والقرطاسية ومن ثم من أمام سوق السراجين حيث كانت السروج وأغمدة الخناجر والأحزمة تزين مدخله وتخرج منها رائحة غريبة ليست قبيحة، شبهتها عندما كبرت بالعمر برائحة نبيذ العنب. في نهاية الشارع، توقف والدي أمام بائع لبن سمين جدا يجلس على مقعد عريض بدون ظهر وبدون ذراعين، مقعد يستند على عامود كهرباء، وأمامه قِدر نحاسي كبير مليء باللبن وبيده مِغرفة هي الأخرى مصنوعة من النحاس. طلب والدي منه ثلاثة أقداح من اللبن. انتابتني رعشة قوية عندما شربت الجرعة الأولى منه بسبب حموضته لكني لم أتجرأ أن أقول بأني لا أريده. أغمضت عينيَّ وتجرعت قدح اللبن كله مرة واحدة حتى تمر الحموضة بسرعة. ة

استمررنا في طريقنا ووصلنا إلى الجسر العتيق حيث كان مزدحما بالعابرين والمارة الذين كانوا يمشون بالاتجاهين، من جهة الرصافة إلى جهة الكرخ وبالعكس. بسبب صغر جسمي، لم أكن أرى من المارة في هذا الزحام غير النصف السفلي من أجسادهم. حينها، بدأت أحس بأن المسافة التي قطعناها كانت طويلة جدا لكنها لم تكن كذلك عند أخي. شعر والدي بما أفكر فيه فرفعني ووضعني على أكتافه. على أثر ذلك انتابتني سعادة كبيرة لأني بدأت أرى رؤوس الناس الغفيرة وحركة السيارات ورأيت من جهة اليسار منارة جامع الوزير ومن اليمين منارة جامع الخفافين. وعندما وصلنا إلى منتصف الجسر، كنت أرى بوضوح خلف حاجزه، الانكليزي الشكل، نهر دجلة ولونه التركوازي وامتداده في الأفق وحركة النقل النهرية حيث كانت القفف ( قوارب مدورة الشكل) تنقل البضائع والعابرين. على البعد كنت أرى بعض المآذن منها مئذنة جامع السراي بالرصافة ومئذنة جامع قمرية بالكرخ. أحاسيسي في تلك اللحظات كانت تشبه تلك التي نحس بها في الأعياد. د

وصلنا إلى نهاية الجسر وتوقفنا في مقدمة الساحة المقابلة له والتي كانت موقفا مركزيا ومحطة للحافلات (الباصات) الحمراء وسيارات النقل الأهلية (سميت بعد 1958 بساحة الشهداء). عبرنا الجسر متوجهين إلى جهته الأخرى، إلى الموضع المجاور له والذي ينحدر بشكل خفيف نحو نهر دجلة حيث يوجد هناك مقهى كبير وشهير يطل على النهر وهو مقهى البيروتي في منطقة باب السيف، يقال أن مؤسسه الأول كان لبناني الأصل. رأيت في هذا الموضع تجمعا لأعداد غفيرة من الناس، وعيونهم  موجهة إلى المقهى المكتظ بالزبائن. اقتربنا من المقهى إلى الحد الذي لا نستطيع أن نذهب أبعد منه بسبب الزحام واختار والدي مكانا تحت الجسر بجانب دعامته الأولى ليتوقف. أنزلني من أكتافه وأجلسني على الجزء المسطح والبارز للدعامة وبجانبي أخي ومسك يدي وطلب من أخي أن يمسك بيدي الأخرى وأن ينتبه حتى لا اسقط. على بُعد بضع خطوات منا، تحت الجسر، كان هناك بائع عصير (شربت) الزبيب مع عربته ينادي الناس بطريقة غنائية ليقتربوا وليتذوقوا عصيره البارد والمنعش. ش

نظرت إلى هذه الأعداد الغفيرة من الناس وانتابني الفضول فسألت والدي: ماذا يفعل كل هؤلاء هنا وماذا ينتظرون؟ نظر إلي بحنان وداعب شعر رأسي وقال: انه تجمع جماهيري فجائي تأييدا للشعب المصري ومقاومته للعدوان الثلاثي، وكل هؤلاء جاءوا ليستمعوا إلى كلمة محمد حسين أبو العيس حول الموضوع. لم أفهم ما قاله والدي وما عناه، المهم إني كنت سعيدا أن أعيش معه ومع أخي هذه اللحظات التاريخية. ة

ملاحظة: لم أكتشف بأن أبو العيس هو أحد قادة الحزب الشيوعي العراقي في الخمسينيات إلا عندما تجاوز

عمري الخمسة عشر سنة. ة

بروكسل 2018

Logo facebook.jpg
twitter-icon-13-256_edited_edited.png
instagram-icon-png-34.png
Logo INAR.jpg

Institut Européen de la Langue et de la Culture Arabes

2 rue de l'Alliance - Verbond, 1210 Bruxelles

TEL. 0032 (0)2 218 64 74    Courriel: institut@arabe-culture.com

bottom of page