top of page

 تأسس في سنة 1988

علماني مستقل

المعهد الأوربي للثقافة العربية 

بغداد، باب الاغا، 1937

"طرزان"

 ذكريات زمن جميل بسرد قصصي

بغداد في خمسينيات القرن العشرين

علي خضر

كان ذلك في صباح أول أيام عيد الأضحى في نهاية الخمسينات، وقتها تجاوز عمري الست أو السبع سنوات. سمعت وأنا في داخل بيتنا في محلة الست هدية أصوات أطفال جيراننا وهم ينادوني لكي أخرج وأشارك معهم فرحة العيد. عندما رأتني أُمي متجها نحو الباب منعتني من الخروج وقالت لي لن تخرج قبل أن تلبس ملابس العيد الجديدة ولن تلبس الملابس الجديدة قبل أن تستحم. نظرت إليها حائرا لأني كنت أخشى أن أتأخر على أطفال المحلة لكن لم يكن عندي أي خيار غير أن أنفذ طلبها لأني تجنبت البارحة مساء الاستحمام مع باقي أفراد العائلة وفي الحقيقة اني كنت أعتبر الاستحمام تعذيبا. كان الحمام جاهزا فأدخلتني به والدتي بسرعة وكأنني كومة من الملابس الوسخة. وجدت، كالعادة، أرضية الحمام ساخنة والبخار يملأ كل فضائه. لم أكن أحب جو الحمام هذا وكنت، في كل مرة أدخل فيه، أتصنَّع بأن البخار يخنقني وان قدمي تشيطان لكني، هذه المرة، كنت أعرف بأن اعتراضي لن ينفع واني لن استطيع الهرب من الاستحمام.  م

حمامنا كان شبيه بمعظم حمامات بيوت بغداد القديمة، مربع الشكل، صغيرا وبسيطا، أرضيته حجرية ولا يزيد ارتفاعه على المترين، مبني على طريقة الحمامات التركية لكن بطريقة بدائية وتسخين أرضيته بواسطة سخان نفطي (البريمز) كانت تستغرق ساعتين أو أكثر. عندما وضعت قدمي العاريتين على أرضيته، أحسست بحرارته تخترق قدميّ وتدخل في كل أعضاء جسمي. أجلستني على تختة صغيرة من الخشب (التختة مقعد صغير وواطئ لا ظهر له ولا ذراعين) مبللة وقريبة من حوض حجري صغير مملوء بالماء الساخن وفيه طاس (طاسة)  نحاسي (الطاس إناء يشرب فيه أو تغسل فيه الأصابع بعد الطعام) وبدأت تغسلني كما تفعل عندما تغسل صحون الطعام.  م

أثناء وجودي في الحمام، انتهز أخي الكبير، زيد، الفرصة ليخرج بسرعة وليلتقي بفتيان المحلة ومنهم أبناء العمة نبيهة حيث كان بيتهم يجاور بيتنا. بسبب صغر عمري، لم يكن زيد يُحب كثيرا أن يأخذني معه في جولات العيد، كان يفضل أن يذهب مع أصدقائه أو مع أولاد العمة نبيهة أو مع أولاد الخالة فهيمة الذين كانوا من نفس عمره أو يكبروه قليلا ويسكنون في نفس محلتنا في الست هدية. استغل زيد فرصة غيابي وذهب مع الآخرين إلى سينما مترو الواقعة في مدخل محلة الفضل، كنا نسميها سينما الفضل، والتي لا تبعد أكثر من 250 متر عن بيتنا، لمشاهدة فلم طرزان الذي كان الجميع يتحدث عنه حينها. ا

عندما انتهيت من الحمام، ساعدتني أمي على ارتداء ملابس العيد الجديدة ووضعت في جيبي بعض القطع النقدية وطلبت مني أن لا ابتعد عن البيت. لكن بمجرد الانتهاء من ذلك، خرجت مسرعا أبحث عن أخي في زقاقنا الصغير (الدربونة) لكني لم أجده. خاب ظني وأحسست بالحيرة لأني لم أكن أعرف ماذا سأفعل بدونه. رأيت زهير ابن جارنا، وهو من نفس عمري، جالسا على عتبة باب بيت أهله ينظر إلي بحزن ويؤشر بيديه نحو مخرج الزقاق. لم أفهم جيدا ما الذي كان يريد أن يخبرني به فتوجهت إليه وسألته ما إذا كان قد رأى أخي. حرك شفافه بتثاقل وحزن ليخبرني بأنهم قد ذهبوا كلهم سوية إلى السينما ورفضوا أن يأخذوه معهم. أغضبني ذلك فطلبت منه أن ينهض ويأتي معي. أخذته من يده وقلت له مثل شخص كبير بالعمر: هيا بنا، سنتبعهم وسنلتحق بهم.  م

كنت أعرف الطريق إلى سينما مترو لأننا كنا نعتبرها سينما المحلة وغالبا ما نتردد إليها أو نمر بجانبها أو من أمامها عندما نذهب إلى سوق الفضل أو إلى محلة القره غول المقابلة للفضل والتي كان يسكن فيها بعض الأقارب. خرجنا مسرعين من زقاقنا الواقع في الست هدية واتجهنا يمينا لنأخذ شارع الملك غازي باتجاه باب المعظم. مررنا من أمام بيت الدايني الواقع في مدخل زقاقنا ومن أمام مدخل محلة المهدية حيث تسكن خالتي نعيمة والخال عبود القيسي. ومن الجهة الأخرى من شارع الملك غازي كانت تسكن، في زقاق صغير وهو جزء من محلة الست هدية، خالتي فهيمة وزوجها إسماعيل الصفار وأولادهما خالد وطارق. استمررنا نمشي على رصيف شارع الملك غازي من جهة المهدية، وهذه الجهة كانت مليئة بالدكاكين الصغيرة. الشارع كان مزدحما بالمشاة ومررنا من أمام المقهى الصغير الذي كان يتردد إليه ويلتقي فيه بعض شباب محلة الست هدية والمهدية ومنهم ستار ومهدي أولاد خالي عبود. صاحب المقهى كان يضع الفوطة (الوزرة) حوالي بطنه البارزة والتي تشبه الكرة ويقدم الشاي البغدادي ذا النكهة الهندية لزبائنه وكلمة (تفضل يا ورد) لا تسقط من فمه. أشار لي صديقي الصغير زهير بيده لأنظر عبر الشارع إلى الجهة المقابلة لهذا المقهى. كان عبد الجبار الجنابي، من أقربائنا، وهو سمين جدا، أمام بيته مع صديقه عدنان الزهاوي الذي كان اسمن منه. الاثنان كانا يجلسان على كرسيين من الخيزران أمام باب البيت وأمامهما بائع الكبة المتجول المصلاوي الآشوري المعروف في منطقتنا. كان هذا البائع المتجول يحمل دائما معه سلتين، واحدة مخصصة للكبة المسلوقة الكروية الشكل والأخرى للخبز العراقي (الصمون). رأيتهما، وأنا في الجانب الآخر للشارع، يأخذان سلة الكبة منه، يضعانها على الأرض، يخرجان قِدر الكبة (طنجرة الكبة) منها ويضعانها على عتبة باب البيت، يرفعان الغطاء، ويأخذ كل واحد منهما حبة ليلتهما بلحظة واحدة. لقد كان كل واحد منهما قادرا أن يأكل عشرين أو ثلاثين حبة كبة في وجبة واحدة.   ة

واصلنا طريقنا وعبرنا محل بائع الفحم إلى أن وصلنا إلى مدخل محلة الفضل وهو على بُعد بضعة أمتار من السينما. هناك توقف زهير ونظر إلي وقال وهو يضع يديه على بطنه بأنه جائع. اقترحت عليه أن يشتري كعكة مشبكة (چرك) من الفرن الواقع في بداية مدخل  الفضل أو يشتري قطعة (سميط) من البائع المتجول الذي يجلس دائما في الزاوية القريبة من الجامع لكنه كان يريد شيئا آخرا. فهمت ما كان يريده فدخلنا في سوق الفضل المزدحم بالمارة نبحث عن بائع لفات (سندويجات) العمبة بالبيض الذي نعرفه وهو يعمل عادة أمام باب جامع الفضل ولكننا لم نجده، ربما بسبب العيد، فاضطررنا أن ندخل في أزقة (درابين) عزة الطوالات (تسمى أيضا عزات الطويلات) الملاصقة للفضل والتي تمتد إلى خلف محلة المهدية حيث كنا نعرف هناك بائعا متجولا آخرا لهذه اللفات (السندويجات) البغدادية. عزة الطوالات كانت معروفة ببرودتها لأن الشمس لا تدخل فيها بسبب ضيق أزقتها وقدم بيوتها. وجدنا هذا البائع في مدخل زقاقها الرئيسي والذي كنا نسميه دربونة البو مفرج وطلبنا منه لفة عمبة بالبيض. نظر إلينا متعجبا وأنفجر ضاحكا وسألنا في البداية عن أعمارنا وأسمائنا ومن ثم إن كنا نتحمل العمبة الحارة فأجابه زهير متحمسا بكلمة نعم، فازداد ضحك البائع المتجول وعمل لفة أنيقة ومليئة بالعمبة وقدمها إلى زهير الذي كاد أن يطير فرحا بها. أخذنا اللفة ورجعنا سالكين نفس الطريق إلى أن وصلنا إلى سينما مترو.  و

لا اعرف كم من الوقت أضعنا في الطريق وفي البحث عن لفة العمبة لكننا عندما وصلنا وجدنا عدد كبيرا من الأطفال مع آبائهم ينتظرون على الرصيف أمام مدخل سينما مترو العرض القادم لأن الفلم كان قد بدأ. جلس زهير على عتبة الرصيف ليأكل لفته (سندويجته) بجانب طفل سمعته يدندن مع نفسه ويغني : طرزان، طرزان والشادي صديقه، طرزان طرزان يصعد النخلة بدقيقة ... بقيت واقفا بجانب زهير أنتظر أن ينتهي من لفته وعيناي كانتا تبحثان عن أخي وأصدقائه بين هؤلاء الناس الذين كانوا ينتظرون وجذب انتباهي علم معلق على إحدى شبابيك عمارة مجاورة لسينما مترو ولسينما الأهرام الصيفية. عرفت فيما بعد (بعد بضعة سنوات وعندما أصبحت أكثر وعيا) انه علم فلسطين وان سكان العمارة كانوا كلهم من الفلسطينيين.   ن

لم أجد أخي زيد وأصدقائه بين هذا الحشد من الناس المنتظرين للعرض القادم لأنهم كانوا قد وصلوا مبكرا ودخلوا في الصالة. توجهنا إلى شباك التذاكر وعندما أردنا شراء بطاقة واحدة لنا الاثنين لأننا صغار، سعر البطاقة 40 فلسا، نظر إلينا قاطع التذاكر، واعتقد بأن اسمه عبد الباقي، مستغربا وسألنا ما إذا كان هناك أحدا كبيرا بالعمر يرافقنا، أجبته بان أخي وأصدقائه وأبناء عمتي موجودون في داخل الصالة. نظر إلينا، ابتسم ثم نهض وترك مكتبه وطلب منا أن نتبعه. أخذت يد زهير بيدي ومشينا وراءه. دخلنا في صالة السينما المظلمة وكنا نختطف النظرات بين لحظة وأخرى لننظر إلى الشاشة وخصوصا عندما نسمع صرخات طرزان وحيوانات الغابة وكان ذلك يُثيرنا ويملأ قلوبنا سعادة

كان بائع التذاكر يمشي، ونحن وراءه، بين الحائط المظلم وصفوف الكراسي حاملا مشعله الصغير (لايت) وينادي بصوت خفيف وواطئ اسم أخي، عندها سمعنا أخي يجيب: أنا هنا. أضاء بائع التذاكر لنا الطريق بمشعله وطلب منا أن ندخل في الصف الذي يجلس فيه ولم يطالبنا بأجور التذاكر وجعلني ذلك أحس بالفخر. فسح أبناء عمتي وأصدقاء أخي المجال لنا لنجلس بقربه، نظر إلينا منزعجا من وجودنا وأحسست بأنه كان يقول لنفسه ها هي الورطة قد بدأت. ت

bottom of page