top of page

 تأسس في سنة 1988

علماني مستقل

المعهد الأوربي للثقافة العربية 

كهوة عزاوي.jpg

الضياع

 ذكريات زمن جميل، بسرد قصصي

بغداد في خمسينيات القرن العشرين

 علي خضر

في صباح أحد أيام شهر رمضان، كنا نلعب، زهير وحازم وأنا، في زقاقنا الصغير (دربونتنا) الملتوي بِكُرة مصنوعة من البلاستك الطري ومتهرئة. الزقاق كان هادئا جدا لأن أخي وأبناء عمتي نبيهة وفتيان الجيران كانوا في مدارسهم. لا أتذكر كم كان عمري لكني أتذكر بأنه لم يتجاوز حينها الخمس سنوات. أثناء لعبنا كنا نسمع صراخ أُم مهدي الصابئية، جارتنا من جهة اليسار، على ابنها الوحيد مهدي الذي لم يستطع أن ينهض من فراشه للذهاب للعمل لأنه ما زال سكرانا من كثرة ما شرب في الليلة السابقة. كانت أُم مهدي، وهي في نهاية الخمسينات أو ربما في الستينات من العمر، تذهب كل يوم خميس إلى المرقد الصابئي للدعاء بالصلاح لابنها.  ا

زهير كان من نفس عمري أو ربما يكبرني ببضعة أشهر. يسكن في البيت المجاور لبيت أُم مهدي، وهو ابن عبد الكريم القيسي المعروف باسم أبو عدنان وعدنان هذا كان يعمل حدادا، قُتِلَ في ظروف غامضة في الستينات. ولدى زهير أخوين آخرين هما منذر وعامر وثلاث أخوات هن حذام ونوال ونضال. أما حازم وهو أكبرنا لكنه أصغر أفراد عائلة خجة، وهو مختصر لأسم خديجة، وكان يطلق عليها أسم أُم ياسين وأبنائها هم ياسين وسامي وحازم.

بعد أن تعبنا من اللعب، تركنا حازم ورجع إلى بيته، أما نحن، زهير وأنا فقد جلسنا على عتبة مدخل بيت عمتي نبيهة، وهو البيت المجاور والملاصق لبيتنا من جهة اليمين. وضع زهير الكرة أمامه، بين رجليه، نظر إلي وقال بحزن بأنه يريد أن يذهب إلى المستشفى الملكي ليرى أمه لأنها تنتظر مولودا وطلب مني أن أرافقه. وافقت على ذلك وقررنا الذهاب بدون أن نخبر أحدا لأننا كنا نعرف بأن أهالينا سيمنعوننا من الذهاب.  ب

زهير لم يكن يعرف أين تقع المستشفى لكنه كان يعرف أو كان يتصور بأنه يعرف الطريق للذهاب إليها. خرجنا من زقاقنا الصغير (دربونتنا) في محلة (حي) الست هدية ومشينا بمحاذاة ساحة زبيدة ومررنا من أمام مخبز جبار الجنابي وانعطفنا نحو اليسار باتجاه ساحة السباع وكنت أرى من بعيد نصب الأسود وهي تحمل على ظهورها الحوض الحجري وقريبا منها وعلى جانبها الأخر محلات الحدادين، وأسمع ضربات المطرقة بالحديد. لقد كانت هذه المرة الأولى لي أن أبتعد عن البيت بدون مرافقة أي فرد من العائلة. قبل أن نصل إلى ساحة السباع انعطفنا إلى اليمن ودخلنا في أحد أزقة محلة قمبر علي، التي لم أكن اعرفها في ذلك العمر، وجذب انتباهي فيه أبواب البيوت إذ أكثريتها كانت سوداء أو كالحة وقديمة ومقوسة من الأعلى والمسامير العريضة تغطي سطحها الذي وُضِع عليه مطرقتين بشكل يد واحدة كبيرة والأخرى صغيرة. عندما كبرت عرفت بأنها أبواب عباسية وعثمانية الشكل والمطرقتين كانت الكبيرة منهما مخصصة للرجال والصغيرة للنساء. بعض واجهات البيوت كانت تبرز منها الشناشيل المزخرفة (شرفات معلقة وبارزة) البغدادية أو العراقية المميزة.  ة

كنا نمشي في هذه الأزقة الضيقة والمعتمة لعدم دخول ضوء الشمس إليها والمليئة بالالتواءات ببطء فنخرج من زقاق لندخل بآخر وننعطف يمينا أو يسارا لكي نتقدم باتجاه المستشفى لكننا سرعان ما نجد بأننا أخطأنا الطريق وبأننا رجعنا إلى نقطة البداية. وقتها أحسست بشيء من التعب والضياع في هذه المتاهات. لم يكن زهير يعرف أي اتجاه يجب أن نأخذ فسأل امرأة عجوز، كانت جالسة على مَخدة (مِندر) أمام باب بيتها، عن الطريق إلى المستشفى. العجوز استغربت من السؤال ونظرت إلينا بتعجب، ربما بسبب صغرنا، لكنها أشارت بيدها لزقاق مُظلم وقالت اتجهوا إليه ويجب أن تعبروا محلة أبو سيفين التي أنتم فيها الآن. مشينا في الطريق الذي أشارت لنا إليه ووصلنا إلى منطقة كانت عبارة عن شبكة معقدة من الأزقة (الدرابين) والتي من الصعب حتى على الكبار أن يجدوا طريقهم فيها. كنا نخرج من زقاق وندخل في آخر والوقت يمر بدون أن نجد ما نبحث عنه وإحساس بالضياع بدأ ينتابنا نحن الاثنين، أما أنا فقد بدأت أحس بالبرد وربما كان سبب هذا الحس هو الخوف.  ف

واصلنا طريقنا باتجاه الجنوب، وكما كان يريد رفيقي زهير، إلى أن وجدنا أنفسنا في تقاطع لزقاقين أولهما يلتوي ويذهب إلى اليمين والثاني يلتوي ليذهب إلى اليسار. وقفنا حائرين ونتساءل أي واحد منهما يقود إلى المستشفى الملكي. قال زهير لنأخذ الأول اما أنا فأردت أن نأخذ الثاني لكني لم أعارض خياره لأني كنت أظن بأنه يعرف الطريق. مشينا مسافة ليست قصيرة وبدأ الزقاق الضيق يكبر أو يعرض قليلا عندما وصلنا إلى نقطة يبدأ منها على جانبنا الأيسر فرع لا نعرف إلى أين يذهب أو أين ينتهي، أما أمامنا فقد كنا نرى على البعد شارعا عريضا مليئا بالمارة والسيارات. لم نفهم كيف وصلنا لهذه النقطة وكنا من جديد حائرين ونتساءل أي طريق يجب أن نسلك. لم أدع زهير يفكر أو يختار فقد استمررت بالمشي نحو الأمام باتجاه الشارع العريض وعندما وصلنا إلى نهايته عرفنا بأننا في شارع الملك غازي الذي نعرفه والذي يمر من أمام محلتنا، الست هدية، وينتهي في ساحة الخلاني القريبة من الباب الشرقي. وهنا اكتشفت بأننا لم نكن بعيدين كثيرا عن محلتنا وأننا كنا نلف وندور في المحلة المجاورة وبدون أن نتقدم نحو هدفنا.  ا

في هذه المنطقة، كانت تنتشر على جانبي الشارع محلات البقالة والعطارة والمحلات التجارية المتنوعة ومقهى كبير فيه عدد قليل من الزبائن. حركة مرور السيارات والحافلات (الباصات الحمراء) كانت مستمرة لكن غير مزدحمة. رصيفا الشارع كانا مكتظين بالمارة الذين كانوا يمشون بسرعة وكأنهم يريدون اللحاق بشيء ما وقسما منهم كان يحمل سلال الخوص المليئة بالخضار والفواكه وأشياء أخرى. وعرفت بأننا قريبين من الطريق الذي يؤدي إلى أسواق (الشورجة) والتي غالبا ما كنت أذهب إليها مع أبي أو أمي وانتبهت إلى أننا قد تأخرنا كثيرا وأننا الآن في وقت الغروب وبعض الدكاكين والمحلات بدأت تغلق أبوابها. حينها فهمت بأننا قد قضينا عدة ساعات ونحن ندور ضائعين في هذه الأزقة. أحساس بالجوع والعطش بدأ ينتابنا فتوجهنا إلى المقهى الكبير المُطل على الشارع وطلبنا كأسا من الماء من النادل الذي نظر إلينا باستغراب وسألنا: من أنتما وماذا تفعلان هنا؟ إن وقت الإفطار قد حان! لم نستطيع أن نجيب على سؤاله لأننا لم نكن نعرف أسم محلتنا، فقلنا له بأننا نريد أن نذهب إلى المستشفى، فقال: المستشفى بعيدة وليست في هذه المحلة. أدخلنا إلى المقهى وطلب منا أن نجلس على إحدى الكنبات الخشبية (تسمى في العراق قنفة)، جلب لنا جرة زجاجية من الماء وطلب منا أن ننتظره قليلا. ذهب ليتكلم مع رب العمل الذي كان يجلس خلف طاولة في مدخل المقهى وأمامه صينية نحاسية صغيرة تغطيها قطعة من السجاد عليها بعض القطع النقدية. بعد لحظات عاد النادل حاملا كعكة (جرك) بغدادية وأعطاها لنا وطلب منا أن لا نتحرك من هنا ثم ذهب.  ب

في هذه الأثناء بدأ العديد من الشباب والرجال يصلون إلى المقهى، يسلمون على بعضهم ثم يختارون أماكنهم للجلوس سوية. لم تمض إلا دقائق حيث امتلئ المقهى بالزبائن وثرثرتهم كانت تغطي المكان. استمررنا نراقب بفضول هؤلاء الرواد الذين بدؤوا يتجمعون ثم ينقسمون إلى فريقين، ونقاش يظهر عليه الفرح يدور بين أعضاء كل فريق. بعد ذلك ابعدا بعض الكنبات وفرشوا الأرض بالحصران ووضعوا عليها المخدات (المنادر) وجلسوا كفريقين أحدهما مقابل الآخر. عندها نهض شخصا واحدا من كل فريق وسمعت الأول يقول بأنه الرئيس (الطاير) لفريقه وأجابه الثاني على انه هو أيضا (الطاير) لفريقه ثم أخرج أحدهما خاتما وقال لنبدأ. وهنا فهمت بأنهم سيلعبون لعبة (المحيبس) المحبس وكنا نسميها أيضا بالـ (بات) وهي اللعبة التي يمارسها فتيان وشباب محلتنا وأصدقائهم في المساء منذ بداية رمضان وفي بعض الأحيان يلعبونها طوال الليل ولغاية إطلاق مدفع السحور.  ر

في تلك الأثناء رأيت النادل الذي طلب منا أن نجلس وننتظره قد عاد حاملا معه صينيتين من البقلاوة والزلابية للاعبين وهذا هو جزء من تقاليد لعبة المحيبس. عندما وضع الصينيتين على طاولة قريبة من الفريقين بدأ أحد اللاعبين يغني : (يا عيني على البقلاوة، اللي ما يأكل منها، ما يدري (شلون) من العسل سكرانة). لكن حسب تقاليد اللعبة لا أحد يستطيع أن يأكل من الحلويات إلا بعد انتهاء اللعبة ومعرفة الفائز والخاسر. رجع العامل نحونا وطلب منا من جديد أن لا نتحرك من مكاننا ورأيناه يتحدث مع رب العمل ويختفي من جديد.  د

بدأ الفريقان يلعبان والحرب النفسية التي يقودها (الطاير) للبحث عن الخاتم تجبر الجميع على الصمت وعلى المخاتلة. وبين الحين والآخر نسمع أحد اللاعبين صارخا بقوة: بات. أما نحن فقد كانت عيوننا تتنقل بين اللاعبين والزلابية الذهبية اللون والبقلاوة العسلية الشكل والنكهة. لا أعرف كم من الوقت مضى علينا ونحن ننتظر في المقهى ولاحظت بان الليل بدأ يهبط ببطء والنجوم بدأت تغطي السماء. نظرت إلى زهير فشعرت بأنه قلق وخائف وهذا ما كنت أحس به أنا أيضا. حينها ظهر النادل من جديد ومعه رجلين من الشرطة. لم يهتم اللاعبون بمشهد وجود الشرطة لأنهم كانوا منشغلين بالمسابقة. الشرطيان اقتربا منا وسألانا إن كانت أسمائنا زهير وعلي فأجبنا بنعم. بعد بضعة أسئلة، فهمنا بأن رجال الشرطة كانوا يعرفون باختفائنا لأن أهالينا اخبروهم بذلك. أبقونا في المقهى وطمأنونا بأن أهالينا سيأتون ليأخذونا معهم. جلس الشرطيان بجانبنا لكن عيونهم كانت تراقب باهتمام لاعبي المحيبس وأحسست بأنهما كانا يتمنيان أن تنتهي اللعبة بسرعة لكي يشاركوا اللاعبين بأكل البقلاوة والزلابية. ة

لم يمر وقت طويل حيث وصل أبي وأخي زيد ومعهما أبو زهير وأخوه عدنان إلى المقهى وتوجهوا مباشرة إلى الشرطيان ليشكروهم ومن ثم تكلموا مع العامل وشكروه. والدي ووالد زهير لم ينهرانا بل ضحكا معنا وقبلانا وأرادا أن يعطيا بعض النقود للنادل لكنه رفض ذلك وطلب منهما أن ينتظرا قليلا ليشاركا اللاعبين والشُرطيين بأكل الحلويات بعد انتهاء اللعبة لأن ليالي رمضان هي أعياد غير رسمية.  ة

فرنسا 2019

bottom of page