Laïque et Indépendant
Fondé en 1988
Centre Culturel Arabe
التلفزيون
ذكريات زمن جميل، بسرد قصصي
بغداد في خمسينيات القرن العشرين
علي خضر
لا أعرف بالضبط متى ولماذا انتقلنا من بيت العائلة لنسكن في البيت الصغير المجاور والملاصق له، ربما قبل ولادتي وربما بعدها، ربما بسبب زيادة أفراد العائلة كنتيجة لزواج العمتين سعدية ونبيهة من الأخوين محمد وعبد الوهاب، أبناء العم مُلا خليل. وربما لأن الأطفال الأوائل للعمتين نبيهة وسعدية، طارق وخالد وصباح، وقاسم وهاشم، بدؤوا يكبرون ولم يعد البيت يتسع للجميع. لم يكن بيت العائلة كبيرا جدا لكنه كان قبل أن تتفرق العائلة كافيا ليستوعب كل عماتي وعمي سعيد ووالدي. لقد وُلِد العديد من أبناء العائلة فيه وبقى البيت ملكا للعائلة لغاية نهاية الثمانينيات من القرن العشرين. بالرغم من التفرق، بقى هذا البيت مركز اللقاء والتجمع. هذا البيت كان يقع في نهاية زقاقنا الصغير، لذي لا مخرج فيه، في واحدة من أقدم محلات بغداد القديمة في الرصافة وهي محلة الست هدية. ي
واجِهَة البيت كانت عالية نوع ما ولم تكن عريضة أو واسعة بل محدودة ولا تحتوي إلا على باب المدخل الذي
كان أعلى من مستوى الزقاق بأربع درجات. المدخل كان عبارة عن مجاز طوله أربعة أمتار ويوصل إلى (الطرار) وإلى فناء البيت (الحوش باللهجة البغدادية). في نهايته من جهة اليسار درج يقود إلى الطابق الأول وقبله نجد المرافق الصحية (المرحاض). فناء البيت كان صغيرا مربع الشكل تقع في إحدى جوانبه الغرفة الخاصة بعمتي نبيهة وزوجها عبد الوهاب خليل وأبنائهما وبجانبها المطبخ الذي يوجد في داخله من جهة اليسار الحمام. كانت هناك مرافق أخرى (مرحاض ثاني) تقع تحت الدرج وجنبها (في الطرار) المغاسل. في الطابق الأول نجد ثلاث غرف خصصت الأولى لعمتي سعدية وزوجها محمد خليل، الثانية لعمي سعيد وزوجته عفاف والثالثة لوالدي وأمي. أما جدتي (بيبيتي باللهجة البغدادية) جميلة القيسي والتي كان عمرها بحدود الستين سنة والتي كنت أراها في أغلب الأوقات مع أختها نشمية التي تكبرها بخمس سنين، في فناء البيت ولا أتذكر ما إذا كانت هنالك غرفة خاصة بها، أما نشمية فقد كانت تعيش مع أخوتها في بيت آخر من نفس محلتنا في الست هدية. ة
انتقلت عائلتي للبيت المجاور، لكن لا اعرف متى، وانتقل عمي سعيد وعائلته في سنة 1955 إلى منطقة راغبة خاتون (كمب الأرمن) قُرب السدة. الانتقال إلى بيوت أُخرى لم يغير شيئا كثيرا من حياتنا الاجتماعية فتجمعاتنا، الكبار والصغار، استمرت في البيت العائلي القديم على الأقل مرة واحدة في الأسبوع، لاسيما في أيام الخميس أو أيام الجمع. كنا، الفتيان والأطفال، ننتهز فرصة هذه اللقاءات لنقضي ساعات طويلة في اللعب سوية في فناء البيت (الحوش أو الصالون باللغة الحالية) أو على السطح أو في الزقاق أمام الباب. لكن في سنة 1956 حدث شيئا جعل من تجمعاتنا هذه لها أهمية خاصة انطبعت في ذاكرتي وأصبح لها مذاقا خاصا في حياتي اللاحقة فقد اشترى زوج عمتي نبيهة، عبد الوهاب، تلفزيونا ووضعه في الصالون، فناء البيت. فرحنا كان كبيرا لأننا كنا نتجمع، الكبار والشباب والفتيان والصغار، نساء ورجالا، أمام التلفزيون منتظرين بدء بثه لنشاهد برامجه، بالأسود والأبيض لأن التلفزيونات الملونة لم تكن قد أُخترِعت بعد، ومنها مسلسل الكلبة لاسي أو برنامج ركن الأطفال وغيرهما. الآباء كانوا يجلسون على الأرائك الخشبية التقليدية وبجانبهم جدتي (بيبيتي) جميلة، والصغار على حصيرة أو سجادة مفروشة على الأرض مقابل الشاشة وزوجاتهم والبنات الكبيرات على مخدات (منادر باللهجة البغدادية) موزعة هنا وهناك في الصالون. أما الأولاد الكبار خالد وصباح وقاسم وهاشم فلم يكونوا يطيقون الانتظار فكانوا يخرجون ويتجمعون في مدخل الزقاق مع أصدقائهم ليتبادلوا النكات والأخبار. ر
أثناء فترة انتظار البث، النساء كنَّ يُحضرن صينية البطيخ الأحمر (الرقي) للجميع وكؤوس الشاي للكبار الذين كانوا غالبا ما يتحدثون في شؤون العائلة وحكايات الآباء والأجداد وكذلك في السياسة وكان زوج العمة سعدية، محمد، وهو مسئول نقابي في مصافي الدورة (سُجن في نقرة السلمان في 1963)، المبادر دائما للحديث في هذا الموضوع. صوته المُداعب كان يرتفع، في بعض المرات، ضاحكا وساخرا من وزراء الحكومة وينعتهم بـطليان (خرفان) الانكليز، وفي مرات أخرى، كان يبدو عليه السخط والغضب الكبير والعميق ضد النظام. أما والدي فكان يسمع ويؤيد ما يقولوه لكنه، ربما لأنه الأكبر عمرا، كان دائما المبادر في الكلام عن قصص الآباء والأجداد وعن حياته أثناء عمله كسائق لشاحنة (لوري) خلال فترة الحرب العالمية الثانية. اللقاءات العائلية هذه كانت طافحة بالفرح والسرور ومن خلالها كنا، نحن الأطفال، نكتشف التقاليد العائلية وأدب التعامل والاحترام وأخبار الأجداد. في هذه اللقاءات سمعت والدي يحكي قصة أبوه، جدي خضر، مفتخرا بها والتي انطبعت في ذهني لأنه أعاد قصها لي ولأخي عندما كبرنا. فقد كان جدي خضر أفندي، كما كان يسميه والدي، موظفا مسئولا في دائرة الطابو (العقار) العثمانية وقد ترك وظيفته بعد سقوط بغداد واحتلالها من قبل الجيش البريطاني رافضا أن يعود لها ما دامت السلطة السياسية بيد الانكليز ولم يطالب بحقوقه التقاعدية من النظام الملكي / الانكليزي لأن عزة نفسه كانت تمنعه أن يطلب ذلك من النظام المحتل. فاكتفى بعوائد البيتين المؤجرين العائدين إليه ليُعيل العائلة لكن هذه الموارد لم تكن تكفي فاضطر أن يبيعهما الواحد بعد الآخر لسد حاجات البيت. بعد وفاته أصبح والدي، وهو الأخ الأكبر في العائلة، مسئولا عن الجميع فترك الدراسة وبدأ يعمل لكي يُعيل أخواته وأخيه سعيد الذي أكمل مع مرور السنين دراسته في القانون أو الحقوق. ق
أما محمد زوج العمة سعدية فكان، عندما يسمع حكاية والدي، يلعن الانكليز وخرفانهم الذين حرموه هو وأخوهأأ عبد الوهاب زوج عمتي نبيهة، من ارث والدتهم مكية (اعتقد أنها كانت من أصول تركية) التي كانت قد سجلت أملاكها التي تحتوي على مجموعة من البيوت في سجلات العثمانيين في اسطنبول وبعد سقوط بغداد لم تكن الحالة السياسية وحالتها الصحية تسمحان لها بنقل السجلات إلى بغداد فاعتبرت الإدارة الانكليزية هذه الأملاك حالة وقف، أي تحت إدارة السلطة الجديدة. ة
في ذلك الوقت تجاوز عمري الأربع سنوات وكل شيء كان عندي لعبا ومنها اللقاءات العائلية وتجمُع الآباء الأربعة، الأخوين عبد الوهاب ومحمد، والأخوين سعيد ووالدي سلمان. لم يكن يهمني سماع حديثهم في السياسة ولم أكن أفهم منه شيئا لكنه كان يُسعدني لأنني أو لأننا، نحن الأطفال، كنا نحس بوجودنا وأهميتنا معهم. كانوا يطلبون منا أن نجلس بالقرب منهم وأن نستمع إلى أحاديثهم أو نأكل معهم وفي بعض الأحيان يوجهون الأسئلة لنا أو لأحدنا ليعرفوا تفكيرنا في كذا موضوع وهذا ما كان يجعلنا نحس بأهميتنا وبأننا جزء من هذا اللقاء أو التجمع العائلي. ي
من بين أسعد لحظات اللعب التي كنا نعيشها، نحن الأطفال، هي تلك اللحظات التي كانت عندما يطلب عمي سعيد منا، أن نجمع أكبر عدد من الأحذية والنعلان. فكنا نبحث عنها في كل مكان ونضعها، حسب طلبه، على الأرض بشكل منظم موجهين ظهورها (أقفيتها) نحو شاشة التلفزيون. كنا نعمل ذلك تحت إرشاداته ومراقبته، وعندما ننتهي كان يطلب منا أن نجلس على الحصيرة وننتظر البث التلفزيوني. وقتها لم أكن أفهم ما يبغيه من ذلك لكني كنت سعيدا بجمع الأحذية والنعلان مع أبناء العم والعمتين محمد، عماد، حكمت، منى، غانم وباسم والآخرين. ن
كنا ننظم الأحذية والنعلان كما يطلب منا لأننا كنا نعتبر ذلك لعبة نشارك بها جميعا وهو، أي عمي، كان قائدنا في اللعبة والمسئول عن تنظيم الأحذية والنعلان بشكل جيد. كان البث التلفزيوني يبدأ، إن لم تخني الذاكرة، في السابعة مساء بموسيقى السلام الملكي وصورة الملك العراقي. وفي لحظة بدء البث، كانت الأحذية والنعلان المرتبة تواجه الشاشة وكأنها تحيي السلام الملكي والملك. وقتها كانت ضحكة عمي تنفجر وهو يقول: هكذا يجب أن تُستقبل حكومة خدم الانكليز، بالقنادر (أي بالأحذية) والنعلان. أما نحن الأطفال فكنا نغرق ضحكا ومرحا هاتفين بدون أن نفهم شيئا بسقوط النظام الملكي. ي
فرنسا 2018.