top of page

 تأسس في سنة 1988

علماني مستقل

المعهد الأوربي للثقافة العربية 

السفرطاس 2.jpg

"السفرطاس"

 ذكريات زمن جميل، بسرد قصصي

صبغداد في خمسينيات القرن العشرين

 علي خضر

 

كنت في فناء البيت (باللهجة البغدادية يسمى الحوش) جالسا على الأرض ومشغولا في صناعة طائرة ورقية على الطريقة البغدادية عندما نادتني الوالدة. رفعت رأسي لأرى ما تُريد مني، فرأيتها قد انتهت من الطبخ وكانت تملأ قِدور الـسلطانية (السفرطاس) المعدني والمكون من ثلاث طبقات. نظرت إلي وطلبت مني أن أنادي أخي زيد. لم أعر لندائها الاهتمام لأني كنت حقا غارقا في موضوع صناعة الطائرة وتفكيري كان مركزا حول كيفية جعلها طائرة بدون "ذيل"، طائرة خفيفة قتالية، تتحرك بسرعة يسارا ويمينا لتتقاطع مع طائرات الآخرين. مواد الطائرة من عيدان سعف النخيل والورق الخفيف البلاستيكي والصمغ كانت مفروشة حوالي على الأرض، وكذلك بكرة الخيط وبجانبها علبة من الكارتون مليئة بتراب الزجاج الخشن لخلطها مع الصمغ لكي ادهن بالخلطة خيط طائرتي حتى يكون قويا ويقطع خيوط الطائرات الأخرى التي تتعرض لطائرتي. ي

 

أعادت طلبها مرة ثانية لكن بصوت آمر ومرتفع هذه المرة. تجنبت النظر إلى عينيها ونهضت بتثاقل لأنه لم تكن عندي أي رغبة أن أنهض واترك طائرتي لأفتش عن أخي وخصوصا واني لا أعرف أين هو. خرجت من البيت أفتش عنه في زقاقنا (دربونتنا) الصغير الملتوي مثل حرف الراء العربي وفي بيت عمتي نبيهة المجاور لبيتنا فلم أجده. رجعت بسرعة لأخبر والدتي، وذهني ما زال مشغولا بالطائرة، بأني لم أجده. كنت أريد أن أجلس وأكمل صناعة طيارتي عندما قالت لي: إذن أنت الذي ستأخذ (السفرطاس) لوالدك. نظرت إليها مندهشا ومنزعجا من طلبها لكني لم أجد الكلمات المناسبة لأعبر عن ذلك ولأشرح لها انشغالي فأشرت لها بيدي إلى طائرتي التي لم تكتمل بعد وإلى المواد المتناثرة على الأرض. طبعت قبلة على رأسي وسمعتها تقول: تستطيع أن تكمل طائرتك عندما ترجع. أعطتني (السفرطاس) وقالت: أنت تعرف الطريق وهو ليس ببعيد، أنا سأرافقك لغاية الشارع العام، كن منتبها عندما تعبر الشارع. أحاسيس التعاسة والحزن انتابتني لكني لم أستطع أن أعاندها فأخذت (السفرطاس) وأنا على مضض. ض

كان ذلك في ربيع سنة 1958 حيث كانت والدتي تطلب مني بعض الأحيان، مطمئنة القلب، بالذهاب من بيتنا الواقع في  محلة الست هدية إلى محلة عباس أفندي المجاورة لمحلتنا حيث كان والدي يعمل هناك في دكانه الصغير المجاور لمركز الشرطة. لم تكن المسافة طويلة لكني لم أكن متحمسا للذهاب في ذلك اليوم، فطائرتي الورقية غير جاهزة بعد، وكنت أريد أن انتهي من صنعها قبل العصر. إذ في ساعات العصر يصعد الأطفال والفتيان إلى سطوح بيوتهم ويطلقون طائراتهم الملونة تحلق عاليا في السماء الزرقاء هذا الذي يحول هذه الأخيرة إلى فضاء "كرنفالي" يملأ القلوب بالبهجة. أما أنا فقد كنت أتخيل طائرتي تحلق في السماء الواسعة بعيدا وبفضل خيطها الزجاجي تدافع عن نفسها ضد الطائرات الأخرى. حينها انتابني شعور بالفخر بقدرتي على صناعة طائرتي الرائعة. ة

خرجت من البيت، مرغما ومنزعجا، بمرافقة والدتي لحدود مدخل أو مخرج زقاقنا حيث توقفت والدتي هناك وأعطتني "السفرطاس" وتركتني أذهب وحدي وعيونها تراقبني. كان كل شيء هادئ، الشمس ساطعة وحركة المرور عادية. لكني واجهت بعض الصعوبات في حمل "السفرطاس" لأني كنت صغيرا ولأنه كان كبيرا أو بالأحرى طويلا ويصطدم بالأرض عندما أمِدُّ ذراعي هذا الذي كان يجبرني أن ارفع الكوع قليلا.لا

عبرت شارع الملك غازي (الكفاح لاحقا) وساحة السيدة زبيدة وقبل أن آخذ الطريق المقابل والمؤدي إلى دكان والدي توقفت قليلا أمام مدخل زقاق صغير يقع على يميني، وهو أحد أزقة محلة الست هدية، والذي كانت تسكن فيه خالتي فهيمة وزوجها إسماعيل الصفار مع ولديهما طارق وخالد. نظرت إلى الخلف، لم أرى أمي في الجهة الأخرى من الساحة، كانت قد رجعت إلى البيت لأنها تأكدت أن كل شيء على ما يرام. كنت مترددا أن أنتهز الفرصة وأذهب لأزور خالتي أو أستمر بطريقي لغاية دكان والدي. لم استطع أن أقاوم رغبتي فدخلت في هذا الزقاق القصير وعندما وصلت أمام باب بيت الخالة دفعته بهدوء وبحذر ودخلت في المجاز الصغير وتوقفت أمام باب الغرفة الصغيرة، على يميني، والتي كان يلتقي فيها أبناء الخالات والعمات وغيرهم من الأقرباء والأصدقاء حيث يلعبون فيها الشطرنج أو الورق. كانت هذه الغرفة تمتلئ سريعا بشباب العائلة لصغرها إذ لم يكن حجمها يتجاوز الستة أو السبعة أمتار ويتم تهويتها بواسطة شباكها المُطل على الزقاق. عبرت المجاز ووصلت إلى فناء البيت (الحوش) فشممت حينها رائحة القلي الشهية. ة

كانت خالتي جالسة على "تختة" تقلي "عروك القدس" في تلك الزاوية الصغيرة من فناء البيت والواقعة تحت الدرج والتي حولتها إلى مطبخ صغير. عندما رأتني طلبت مني أن أجلس قريبا منها وظهري باتجاه غرفة نومها التي تحتوي على شباك يطل على فناء البيت وفي داخلها سرير عالي من نوع أسرة العصور الوسطى الملكية. سألتني عن ما أفعله وعن "السفرطاس" الذي أحمله وعن حال أختها زكية، أمي، ثم قدمت لي قطعة من "عروك القدس" المعمولة من اللحم المثروم والمقدونس وطحين الحنطة. كانت القطعة لذيذة جدا لدرجة جعلتني أتمنى لو أستطيع أن أبقى معها وآكل قطعا أخرى، لكني خجلت أن أطلب منها قطعة أخرى كما أني كنت في مهمة يجب علي أن أنفذها بسرعة. استأذنت خالتي بنوع من الحزن وخرجت لأكمل طريقي إلى دكان الوالد. د

عندما خرجت من البيت ومن الزقاق، لمحت أبناء خالتي طارق وخالد أمام مدخل الزقاق، أمام المحل الذي أصبح فيما بعد محل ألبان آب لصاحبه صالح الحاج والذي كان صديقا لأبناء خالتي. لقد كان صالح الحاج من الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم بعد حرب 1948 فجاء مع عائلته إلى بغداد وفتح محل الألبان هذا. انعطفت إلى اليمين، حيث كانت تقع على يساري دائرة (الطابو)، دائرة ضريبة الدخل والعقار والتي كان الجميع يسموها بالاسم العثماني "دائرة الطابو"، ودخلت في الزقاق الهادئ والضيق المليء بالالتواءات القصيرة والذي يُوصِل إلى دكان الوالد. لم يكن في الزقاق أي شيء يثير الانتباه جماليا وحيطان بعض بيوته كانت مقببة أو محدبة، لكن في منتصفه، من الجهة اليمنى، كان هناك فرعا ضيقا ومعتما لأن الشمس لا تدخله، فيه بيوت ذات شناشيل (شرفات) بغدادية مزخرفة. توقفت لحظات قصيرة أمام مدخله ونظرت إلى داخله آملا أن أرى احد ما أعرفه إذ كانت تسكن فيه عائلة من أقربائنا وأحد أفرادها هو الضابط الطيار زهير القيسي. كان بودي أن أذهب لأزور هؤلاء الأقرباء لكني أحسست بأن الوقت بدأ يتأخر وأن علي أن أوصل "السفرطاس" بسرعة للوالد. واصلت طريقي ومررت من أمام دكان أبو نجم الأوتجي لكوي الملابس المعروف في المنطقة بثرثرته وقصصه الخيالية والتي كان يروي فيها مغامراته ولقاءاته بالملوك والوزراء وسفراته إلى جزر الواق واق وكذلك نكاته التي لا تنتهي. ي

وصلت إلى نهاية الزقاق بسرعة لأن المسافة كانت قصيرة ولاحظت بأن بائع المكاوية (نوع من الحلوى العراقية) المتجول كان جالسا خلف عربته في زاويته المعتادة حاملا بيده الكشاشة التي كان يحركها بين حين وآخر ليطرد الذباب أو ليقتلها. وقتها تمنيت لو كانت عندي الفلوس لأشتري منه قطعة من هذه الحلوى ذات اللون البني وعليها جوز الهند المبشور. وصلت إلى الزقاق الرئيسي لمحلة عباس أفندي واتجهت إلى اليمين نحو دكان والدي. ي

الزقاق الرئيسي لمحلة عباس أفندي، الذي يبدأ في شارع الأمين، مقابل سوق قمبر علي، وينتهي في محلة دكان شناوة المجاورة للصابونجية والميدان ووزارة الدفاع، كان مليئا بالدكاكين وهو أعرض قليلا من الأزقة القليلة التي مررت بها. أحد فروعه كان يبدأ تقريبا من أمام دكان والدي وينتهي في شارع الملكة عالية (الجمهورية لاحقا). وصلت إلى دكان والدي الصغير الذي كان من السهل أن يجده أي شخص لأنه كان مجاورا لمركز الشرطة، فوجدته جالسا خلف منضدة البيع (التزكاه) مع أصدقائه وتتوسطهم طاولة صغيرة عليها إبريق الشاي وكؤوس فارغة. كانوا يدخنون السكائر ويتناقشون ومن بينهم النجار الأخرس الذي يعمل في محل النجارة المقابل لدكانه. فرح والدي برؤيتي، أخذ "السفرطاس" وسمعته يقول لأصدقائه : هذا أحد أبطال المستقبل. أحسست حينها بالفخر والخجل بنعته لي بالبطل فرفعت هامتي مبتسما للجميع وجلست على ركبتيه. لم أكن أفهم عن أي شيء كانوا يتكلمون لكني كنت أحس بأن هناك شيئا ما سيحدث وخصوصا وأن بعض الكلمات التي كانوا يرددوها كنت اسمعها وارددها عندما كان عمي سعيد يجمعنا أنا وأولاد العمتين سعدية ونبيهة في بيت الأخيرة وهو البيت المجاور لبيتنا لنهتف بهذه الكلمات. ت

 كنت أستمع لهم ونظراتي تتنقل بين الرفوف لتتعرف على العلب والمعلبات المتنوعة المنضدة عليها والتي تشكل البضاعة التي يبيعها. تحت الرفوف، على الأرض، رأيت صندوقا خشبيا كبيرا من الشاي وكيسا كبيرا من السكر وكيسا آخرا من الرز وبجنبه علبة من التنك تحتوي على الجبنة الكردية وجنبها جرة (بستوكة) من الطرشي. بعد بضعة دقائق غادر الأصدقاء وبقيت وحدي مع الوالد الذي فتح (السفرطاس) ووضع قِدوره الثلاثة على الطاولة الواطئة الصغيرة القديمة الموجودة في وسط الدكان والتي لا تُرى من الخارج وطلب مني أن أنادي صديقه النجار الأخرس ليأتي ويأكل معنا. جاء النجار جالبا معه معلقتين من الخشب من صناعته، أعطاني واحدة واخبرني بالإشارات بأنها هدية لي وأنها أفضل من الملاعق النحاسية، ورأيت بأن والدي لديه، هو أيضا، واحدة مثلها.  ا

 بينما كنا نأكل، جاء أحد الزبائن وهو أحد رجال الشرطة من المركز المجاور وطلب، بعد أن سلم علينا، علبة سكاير غازي مع علبة ثقاب. أعطاه والدي العلبتين واستلم ثمنهما وسمعت رجل الشرطة يشكره ويقول له بصوت واطئ جدا أشياء لم استطع أن أفهم منها إلا بعض الكلمات مثل تجمع، أصدقاء، نقاشات سياسية، الخ. وسمعته يقول بأن ذلك سيثير أو من الممكن أن يثير الشكوك حوله. لا أعرف بماذا أجابه والدي لأنه كان هو أيضا يتكلم بصوت واطئ. عندما ذهب الشرطي رأيت النجار الأخرس يرفع قبضته اليمنى عاليا ويُخرج أصواتا غاضبة غير مفهومة. نظرت إلى والدي الذي انطلق ضاحكا وقال لي : هذه أصوات غضب الفقراء. إن التغيير قادم. بالطبع، في ذلك العمر لم أكن أفهم أحاديث السياسة ولم أكن أعرف ما إذا كان والدي ناشطا سياسيا أم لا، ومع ذلك فأن هذه الأحاديث كانت تثير فضولي واهتمامي وتجعلني أحس بوجودي مع الكبار. لكن كل هذه الأشياء لم تُنسيني موضوع الطائرة الورقية. ة

ملاحظة: بعد ثلاثة أو أربعة شهور، انطلقت شرارة ثورة 14 تموز 1958. في الشهور الأولى للثورة وقبل أن نترك بيتنا في الست هدية، استمررت بالذهاب بين الحين والآخر إلى دكان الوالد وكان الزقاق الرئيسي لمحلة عباس أفندي هو احد الطرق المُفضلة عند عبد الكريم قاسم للذهاب مشيا على الأقدام إلى وزارة الدفاع. فكان يمر مشيا على الأقدام بالمحلة من مدخلها، من شارع الأمين، بدون حرس وبدون أسلحة. وكنت أراه يتوقف لكي يسلم على رواد وعمال مقهى الحاج فائق (قهوة حجي فايق) ويسلٌم بحرارة في طريقه على كل أصحاب الدكاكين ومنهم والدي وصديقه وجاره النجار الأخرس الذي يعمل في الدكان المقابل لدكانه. ه

  ة

bottom of page