top of page

 تأسس في سنة 1988

علماني مستقل

المعهد الأوربي للثقافة العربية 

البوتاز 2.jpg

"البوتاز"

ذكريات زمن جميل، بسرد قصصي

بغداد في خمسينيات القرن العشرين

علي خضر

 

كان فتيان محلتنا، محلة الست هدية، منشغلين بالتحضيرات للاحتفال بليلة المحيّة التي تصادف في منتصف شهر شعبان من كل سنة وتاريخيا ترمز إلى تحويل القِبلة من القدس إلى مكة. لقد كانوا يعتبرون هذه الليلة عيدا يمارسون فيه طقوس وتقاليد لا يمارسوها في الأعياد الأخرى. وإحدى هذه الطقوس والتقاليد هي صناعة المفرقعات الصغيرة التي نسميها في بغداد بالبوتاز أو بالطكاك. على أثر إلحاح أخي زيد، الذي كان عمره يقترب من العشر سنين، وافقت أُمي على طلبه لشراء مواد صناعة المفرقعات لكي يشارك فتيان المحلة بالاحتفال بهذه الليلة المقدسة. ة

في ذلك اليوم، كنت ألعب، كالعادة، مع حازم وزهير، أطفال الجيران في الزقاق (الدربونة)، بالكُرات الزُجاجية (الدُعبل أو الدحل كما يسميها البعض) عندما نادتني أُمي لأرافقها هي وأخي زيد. لم أعاندهما عندما عرفت بأنهما كانا ذاهبان لشراء مواد البوتاز لكني كنت متأسفا لترك اللعب مع حازم وزهير. جمعت الكرات الزجاجية ووضعتها بجيبي والتحقت بهما. ا

كان ذلك في عصر أحد أيام سنة 1957 حيث تجاوز عمري حينها الخمس سنوات. خرجنا من زقاقنا (دربونتنا) الواقع في محلة (حي) الست هدية وتوقفنا قليلا أمام ساحة السيدة زبيدة، البيضوية الشكل، والتي تتوسط شارع الملك غازي وتُنظم حركة السيارات فيه في تلك المنطقة. لون السماء الذهبي، والذي تتخلله بعض الخطوط البرتقالية، كان يضيف فرحا وسعادة لدى الشباب الذين كانوا يلعبون كرة القدم في الساحة ولدى المتفرجين الذين كانوا يقفون حوالي الساحة. لاعبوا الكرة كانوا كلهم من أبناء محلتنا والمحلات المجاورة لها وهي المهدية، عباس أفندي، قمبر علي، السباع. ومن بين اللاعبين رأيت صباح ابن عمتي ومن بين المتفرجين لمحت أخيه الصغير حكمت. مشينا بمحاذاة الساحة إلى الزاوية التي يلتقي فيها شارع الملك غازي بشارع الأمين وحيث يتواجد فيها دائما شرطي مرور لتنظيم حركة السير، لكن هذه المرة لم يكن الشرطي يبدي اهتماما كبيرا بالسير بل كان مهتما بمراقبة لعبة كرة القدم ونتيجتها. ا

عبرنا شارع الملك غازي ودخلنا في سوق الخضار والفاكهة الذي يسميه البعض بسوق قمبر علي والبعض الآخر يعتبره جزء من سوق حنون. لم يكن الزقاق الرئيسي لـهذه المحلة يعج بالمارة في تلك الساعة من النهار والحركة فيه كانت هادئة. مسكتني أمي من يدي ومشينا في هذا الزقاق الرطب والمليء بالالتواءات، والذي لا تدخله الشمس بسبب ضيقه، ما يقارب المائة متر ومررنا من أمام دكاكين بيع الخضار والفاكهة ومن أمام محل الخياط عبد الكريم قاسم (الذي اعتقله البعثيون في سنة 63 بسبب اسمه) ومن ثم من أمام دكان بائع الحصائر والسلال المصنوعة من سعف النخيل ومحل حلاقة الجميل. واصلنا طريقنا في هذا السوق إلى أن وصلنا إلى مكان يتوسع قليلا ويتفرع إلى زقاقين: الأول وهو على يسارنا حيث يقود إلى محلة أبو شبل والثاني، وهو الذي يهمنا، يقود إلى سوق حنون الكبير. دخلنا في هذا السوق الذي كان أعرض من السوق السابق حيث توزعت دكاكين الخضار والفاكهة على جانبيه وكان يمتد إلى شارع الملكة عالية مارا بمنطقة تحت التكية والتوراة. أما في منتصفه من جهة اليسار فقد كان هناك زقاق طويل نوعما خاص ببائعي الدجاج واللحوم والأسماك يقود إلى الشورجة. كان هذا الزقاق وسخا والمياه العفنة تجري ببطء في قناته الوسطية وتطير في فضاءه بسعادة المئات بل الآلاف من أفواج الذباب وتخرج منه رائحة مقرفة. عندما مررنا من أمامه وضعت يدي على انفي وفمي لكي لا أشم هذه الرائحة الكريهة وكان أخي الذي يمشي ورائنا ينظر إلي ويضحك علي فقلت له: إن ما يبيعوه ليس غير جثث متعفنة. فانفجر ضاحكا وأضاف : جثث متعفنة لكن عندما تُشوى تصبح لذيذة. ة

أثناء ذلك جلب انتباهي دكان صغير كان يجلس على عتبة مدخله رجل سمين جدا يتكلم ويضحك مع كل من يمر من أمامه وكان عندما يرى امرأة يرفع صوته عاليا وكأنه يتغزل مناديا الجميع ليقتربوا وينظروا إلى خضاره وفاكهته الطازجة والرخيصة الثمن. انعطفنا قليلا إلى اليسار ومررنا من أمام محل الصائغ الصابئي، تركت أمي يدي وتوقفت لحظات قصيرة لتلقي نظرة سريعة على الحلي الذهبية المعروضة في الخزانة الزجاجية العثمانية (العصملية) الشكل، أما أنا فلم أتوقف وبدأت أمشي بجانب أخي ماسكا يده اليسرى. بعد ذلك مررنا من أمام كنيس مهجور أمام بابه يقف بائع متجول مع عربته الخشبية يبيع البادم (كلمة تركية تعني اللوز) وهي حلوى مصنوعة من اللوز والسكر. تركت يد أخي وتوقفت أمام عربة البائع ناظرا إلى الحلوى معجبا ومتمنيا أن ألتهمها. درت رأسي لأنادي أمي ولأطلب منها أن تشتري لي قطعة من البادم الذي أسال لعابي لكنها كانت تمشي بسرعة وأصبحت بعيدة عني لتسمعني أو لتراني وربما كانت تتصنع ذلك. خاب ظني وتركت البائع وأنا أمشي بتثاقل لكن بعد لحظات أحسست بالخوف لأنها ابتعدت كثيرا فركضت للالتحاق بها وبأخي. كنت ما أزال أفكر بحلوى البادم ولم أكن منتبها عندما وصلنا إلى تقاطع لزقاقين وسمعت أمي تقول لنا: هذا الزقاق يذهب إلى الشورجة، نحن نذهب من هنا، إلى محلة أبو سيفين. ن

دخلنا في هذا الزقاق الصغير لمحلة أبو سيفين، التي كان يسكن فيها سابقا عددا كبيرا من العائلات اليهودية قبل تهجيرها إلى فلسطين في نهاية الأربعينات، ومشينا مسافة قصيرة ووصلنا إلى زقاق المحلة الرئيسي. أشعة الشمس الذهبية كانت تتخلل بعض زواياه فتخلق صورا فنية بديعة. لم يكن هذا الزقاق يختلف كثيرا بالتواءاته عن أزقة المحلات السابقة لكنه كان أنظف بقليل وأجمل من قمبر علي وسوق حنون ورائحته ليست كريهة كرائحة سوق اللحم. مررنا من أمام جامع أبو سيفين حيث كانت بابه الخشبية التركوازية اللون مفتوحة ومن خلالها كنا نرى داخله الشبه معتم وفي وسطه بعض الرجال جالسين على الأرض يتعبدون أو يقرأون. انعطفنا قليلا إلى اليمين ودخلنا في زقاق ضيق جدا كانت تفوح منه رائحة طبخ وتوابل نكهة جعلتني أنظر إلى كل الأبواب والشبابيك حوالينا لأعرف مصدرها، فقد أثارت هذه الرائحة شهيتي. ي

لا أعرف كم مشينا وكيف وصلنا إلى محلة بني سعيد المجاورة لـ أبو سيفين لأني كنت تحت تأثير رائحة الطبخ المُشَهِّية. لم تكن محلة بني سعيد كبيرة لكني أحسست بأن الهواء فيها ابرد من المحلات السابقة. شيء أثار اهتمامي فيها هو كثرة النساء اللواتي كن يجلسن أمام أبواب بيوتهن. ففي البداية رأيت امرأة عجوز تجلس على عتبة باب بيتها حيث ذكرتني بجارتنا في الست هدية العجوز خديجة والتي كنا نسميها خجة. على بعد عشرين مترا منها، كانت هناك أربعة نساء يجلسن على حصيرة صغيرة أمام أحد البيوت ويتناقشن وتتوسطهم كؤوس الشاي وسلة صغيرة مليئة بالكعك البغدادي ومجموعة من الأطفال يلعبون غير بعيدين عنهن. وتكرر هذا المشهد عدة مرات ولغاية وصولنا إلى مخرج المحلة من جهتها الشرقية حيث وجدنا أنفسنا أمام ساحة الفردوس والتي كان يسميها البعض ساحة الوصي حيث تقع على يسارها سينما الفردوس ومحلة الكولات. ت

عبرنا الشارع المقابل للساحة ودخلنا في عقد (حي) الأكراد. توجهت أمي إلى دكان عطارة صغير في بداية الحي وسمعتها تسأل العطار إن كان يبيع مادة الزرنيخ فأجابها بان بيع هذه المادة ممنوع لكن بإمكانها أن تذهب إلى بيت أبو مجيد الكردي حيث تجدها عنده ودلها على الطريق. كان حي الأكراد مليئا بالأزقة الفرعية الضيقة الشبه مظلمة والقصيرة وكنا ننعطف يمينا ويسارا في داخل هذه الأزقة وكانت أمي تسأل في بعض الأحيان المارة من نساء أو رجال عن بيت أبو مجيد ويظهر بان الجميع كانوا يعرفوه ويعرفون بأنه هو الذي يبيع المواد الممنوعة. أخيرا، وصلنا إلى العنوان ودقت والدتي على الباب وخرج علينا شاب أنيق الملبس نظر إلينا وهو يبتسم وقال قبل أن تسأله أمي: هل تريدون أن تشترون مادة الزرنيخ ؟ أجابته أمي بالإيجاب فدخل إلى داخل بيته تاركا الباب مفتوحا ورجع بعد لحظات يحمل كيسين صغيرين وقال بان الكيس الأول هو لمادة الزرنيخ والكيس الثاني هو خليط كامل من المواد لصناعة البوتاز، الطكاك. اشترت أمي منه الكيس الثاني وأعطته لأخي الذي كاد أن يطير فرحا به. وضع الشاب البائع يده في جيبه وأخرج كرتين صغيرتين من البوتاز وأعطاها لأخي كهدية صغيرة ثم نظر إلي مبتسما وقال: انك ما زلت صغيرا لتلعب بالبوتاز. أخي وأمي شكراه على ذلك وبدأنا بالرجوع إلى البيت. ت

لم نسلك نفس الطريق للعودة فقد فضلت أمي أن نأخذ الحافلة (الباص) الحمراء ذأت الطابقين التي تنطلق من ساحة الفردوس وتسير في شارع الملك غازي إلى باب المعظم مارة بساحة الست زبيدة. توجهنا إلى موقف الباص في هذه الساحة الصاخبة والمزدحمة التي كانت مليئة بالباعة المتجولين وبهؤلاء الذين كانوا ينتظرون الباصات. وصل باصنا (أو حافلتنا) إلى الموقف فلم أنتظر أمي وأخي فقد صعدت راكضا إلى الطابق العلوي لكي أجلس في المقدمة كي أستطيع أن أرى وأشاهد بوضوح المدينة والناس والسيارات من فوق. لكن خاب ظني عندما شاهدت رجلا وامرأة وابنتيهما الصغيرتين يجلسون على المقاعد الأمامية الأولى. وقفت بين هذه المقاعد أنظر إلى البنتين والخيبة تغطي وجهي. حينها رأيت أخي قد صعد واختار أن يجلس على المقعد الخلفي الموجود في آخر الباص. أما أمي فعندما وصلت اختارت المقعد الثاني خلف البنتين وأشارت لي أن أجلس جنبها. في تلك اللحظة أحسست بيد تداعب شعر رأسي. ألتفت إلى الخلف حتى أرى من يداعب شعري، فكان أبو البنتين الصغيرتين من يفعل ذلك. كان ينظر إلي مبتسما وسمعته يخاطبني قائلا: لا تحزن أيها البطل، تستطيع أن تجلس مع بناتي، إن المقعد يسعكم انتم الثلاثة.  ة.

bottom of page